معنى الاعتكاف
الاعتكاف لزوم الشيء وحبس النفس عليه , خيراً كان أم شراً , قال تعالى { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (52) سورة الأنبياء , أي مقيمون متعبدون لها , و المقصود به هنا لزوم المسجد و الإقامة فيه بنية التقرب إلى الله عز و جل .
مشروعية الاعتكاف
أجمع العلماء على أن الاعتكاف مشروع , فقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام , فلما كان العام الذي قُبض فيه , أعتكف عشرين يوماً ::: رواة البخاري و أو داود و ابن ماجة ::: ,, و قد اعتكف أصحابة و أزواجه معه و بعده , و هو و إن كان قربة , إلا انه لم يرد في فضلة حديث صحيح ,, قال أبو داود : قلت لأحمد رحمه الله : تعرف في فضل الاعتكاف شيئاً ؟ قال : لا إلا شيئاً ضعيفاً .
أقسام الاعتكاف
ينقسم الاعتكاف إلى مسنون و إلى واجب , فالمسنون ما تطوع به المسلم تقرباً لله عز و جل و طلباً لثوابه , و اقتداء بالرسول صلى الله عليه و سلم , و يتأكد ذلك في العشر الأواخر من رمضان لما تقدم , و الاعتكاف الواجب ما أوجبة المرء على نفسه , إما بالنذر المطلق , مثل أن يقول : لله على أن اعتكف كذا , أو بالنذر المعلق كقوله : إن شفا الله مريضي لاعتكفن كذا , و في صحيح البخاري عن الرسول صلى الله عليه و سلم قال (( من نذر أن يطيع الله فليطعه )) و فيه : أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله إني نذرت أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام , فقال (( أوف بنذرك )) .
زمن الاعتكاف
الاعتكاف الواجب يؤدى حسب ما نذره و سماه الناذر , فإن نذر الاعتكاف يوماً أو أكثر وجب علية الوفاء بما نذره , و الاعتكاف المستحب ليس له وقت محدد , فهو يتحقق بالمكث في المسجد مع نية الاعتكاف , طال الوقت أم قصر و يثاب ما بقى في المسجد , فإذا خرج منه ثم عاد إلية جدد النية إن قصد الاعتكاف , فعن يعلى بن أمية قال : إني لأمكث في المسجد ساعة ما أمكث إلا لأعتكف , و قال عطاء : هو اعتكاف ما مكث فيه , و إن جلس في المسجد احتساب الخير فهو معتكف , و إلا فلا , و للمعتكف أن يقطع اعتكافه المستحب متى شاء , قبل قضاء المدة التي نواها , فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفة , و انه أراد مره إن يعتكف العشر الأواخر من رمضان فأمر ببنائه , فضرب قالت عائشة : فلما رأيت ذلك أمرت ببنائي فضُرب , و أمر غيري من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم ببنائه فضُرب , فلما صلى الفجر نظر إلي الأبنية فقال : ما هذه ؟ البر تُردن ؟ قال : فأمر ببنائه فقوض , و أمر ازواجة بأبنيتهن فقوضت , ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الأول ( يعنى من شوال ) فأمر الرسول صلى الله عليه و سلم نساءه بتقويض أبنيتهن . و ترك الاعتكاف بعد نيته منهن دليل على قطعه بعد الشروع فيه , و في الحديث أن للرجل أن يمنع زوجته من الاعتكاف بغير آذنة , و إلية ذهب عامة العلماء و اختلفوا فيما لو أذن لها , هل منعها بعد ذلك ؟ فعند الشافعي و أحمد وداود : له منعها و إخراجها من اعتكاف التطوع .
شروط الاعتكاف و أركانه
المعتكف يجب أن يكون مسلماً , مميزا طاهراً من الجنابة و الحيض و النفاس , فلا يصح من كافر ولا صبى غير مميز ولا جُنب و لا حائض ولا نفساء .
أركان الاعتكاف
حقيقة الاعتكاف المكث في المسجد بنية التقرب إلى الله عز و جل , فلو لم يقع المكث في المسجد أو لم تحدث نية الطاعة لا ينعقد الاعتكاف , إما وجوب النية فلقول الله عز و جل { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } (5) سورة البينة , و لقول الرسول صلى الله عليه و سلم (( إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل إمرىء ما نوى )) و أما أن المسجد لابد منه فلقول الله عز و جل { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (187) سورة البقرة , ووجه الاستدلال انه لو صح الاعتكاف في غير المسجد لم يخص تحريم المباشرة بالاعتكاف في المسجد لأنها منافية للاعتكاف , فعلم أن المعنى بيان الاعتكاف إنما يكون في المساجد .
صوم المعتكف
المعتكف و إن صام فحسن , و إن لم يصم فلا شيء علية , روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام , فقال : أوف بنذرك , ففي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم له بالوفاء بالنذر دليل على أن الصوم ليس شرطاً في صحة الاعتكاف , إذ انه لا يصح الصيام في الليل , و روى سعيد بن منصور عن أبى سهل قال : كان على امرأة من أهلي اعتكاف , فسألت عمر بن عبد العزيز , قال : ليس عليها صيام , إلا أن تجعله على نفسها , فقال الزهري : لا اعتكاف إلا بصوم , فقال له عمر : عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا , فخرجت من عنده فلقيت عطائاً و طاوساً فسألتهما , فقال طاوس : كان فلان لا يرى عليها صياماً إلا أن تجعله على نفسها , و قال عطاء : ليس عليها صيام إلا أن تجعله على نفسها , قال الخطابي : و قد اختلف الناس في هذا , فقال الحسن البصري : إن اعتكف من غير صيام أجزأه , و إلية ذهب الشافعي , و روى عن على و ابن مسعود أنهما قالا : إن شاء صام و إن شاء أفطر , و قال الأوزاعى و مالك : لا اعتكاف إلا بصوم , و هو مذهب أهل الرأي , و روى ذلك عن ابن عمر , و ابن عباس , و عائشة , و هو قول سعيد بن المسيب و عروة بن الزبير و الزهري .
ما يُستحب للمعتكف و ما يكره له
يستحب للمعتكف أن يُكثر من نوافل العبادات , و يشغل نفسه بالصلاة و تلاوة القرآن و التسبيح و التحميد و التهليل و التكبير و الاستغفار و الصلاة و السلام على النبي صلى الله عليه و سلم و الدعاء و نحو ذلك من الطاعات و العبادات التي تقرب العبد من ربه عز و جل , و يمكنه أيضا القراءة في كتب التفسير أو الحديث و غيرها أو الجلوس في حلق الذكر و العلم , و يستحب له أن يأخذ صحن في المسجد اقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم ,,,, و يُكره له أن يشغل نفسه بشيء غير العبادات و الطاعة مثل الكلام في غير المفيد أو العمل في شيء غير الطاعات و يُكره له الإمساك عن الكلام ظناُ له أن ذلك يقربه من الله عز و جل , فقد روى البخاري و ابن ماجة و أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : بينما النبي صلى الله عليه و سلم يخطب , إذا هو برجل قائم فسأل عنه , فقالوا : أبو إسرائيل , نذر أن يقوم و لا يقعد و لا يستظل و لا يتكلم و يصوم , فقال النبي صلى الله عليه و سلم (( مُره فليتكلم و ليستظل و ليقعد و لُيتم صومه )) و روى أبو داود عن على رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال (( لا يُتم بعد احتلام و لاضمات يوم إلى الليل )) .
[ما لا يجوز حال الاعتكاف
لا يجوز للمعتكف أن يغادر المسجد الذي يعتكف فيه إلا لأمر لابد له منه ، كقضاء حاجة من بول أو غائط أو للإتيان بطعام أو شراب إن لم يكن هناك من يحضره له ، ومثله الخروج للتداوي والعلاج ، ونحو ذلك من الضرورات التي لا غنى للإنسان عنها .
كما أن عليه أن يحذر مما يفسد عليه اعتكافه؛ كمباشرته لزوجته أو مجامعتها، لقوله سبحانه: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها} ( البقرة 187) .
فلو جامع المعتكف زوجته فسد اعتكافه ، ولا قضاء عليه على الصحيح، ويفسد الاعتكاف كذلك بالخروج من المسجد لغير ضرورة .
وليس للمعتكف أن يزور مريضًا، أو يشهد جنازة إلا أن يشترط ذلك في اعتكافه؛ ولا حرج في زيارة أقاربه له في مكان اعتكافه ، وخصوصاً إن كان ثمة ما يدعو لذلك ؛ وليس له أن يتجر ويبيع ويشتري حال اعتكافه .
آداب الاعتكاف
لما كان المقصود من الاعتكاف الانقطاع عن الناس والتفرغ لطاعة الله ، كان على المعتكف أن يراعي في اعتكافه جملة من الآداب ، منها الاشتغال بذكر الله تعالى ودعائه ، وتلاوة القرآن ، والإكثار من النوافل ، وتجنب ما لا يعنيه من أحاديث الدنيا قدر المستطاع ، ولا بأس بشيء من الحديث المباح مع الأهل وغيرهم لمصلحة ، لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك معصية رضي الله عنها ، وله أن يتزين ويتجمل في الثياب والبدن ، وأن يأكل ويشرب في المسجد مع المحافظة على نظافته وصيانته .
وبذلك يظهر خطأ كثير من الناس ومجانبتهم لآداب الاعتكاف حين يجعلون من هذه الأيام فرصة للاجتماع والالتقاء ، وتبادل الضحك والأحاديث والأسمار ، وتنويع المآكل والمشارب ، مما ينافي الحكمة التي شُرع لأجلها الاعتكاف ، ويذهب بأثره على القلب والروح .
وبعد، فهذه أهم الأحكام المتعلقة بهذه السُّنَّة المباركة ، نسأل الله أن يجعلنا من المقبولين ، وأن يوفقنا للاقتداء بسنة سيد المرسلين.
زمن الاعتكاف المسنون :
اختلف العلماء في أقل زمن يجب على المعتكف فيه وأكثره ، وأقرب هذه الأقوال في أقل زمن للمعتكف هو ليلة ( من قبل المغرب إلى الفجر ) أو يوم(من قبل الفجر إلى المغرب ) ، لحديث عمر أنه نذر أن يعتكف ليلة بمسجد الحرام فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وأما أكثر فليس له مدة محددة ، وكره المالكية الاعتكاف أكثر من شهر ولم يجد العلماء دليلاً على الكراهية ، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر يدخل في أول ليلة من العشر الأواخر ، وأستحب كثير من العلماء خروجه عند صلاة العيد ولو خرج بعد المغرب ليلة الأول من شوال لجاز.
ويتأكد الاعتكاف في رمضان ، ويتأكد تأكدا في العشر الأواخر ، لتكرار فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ولم يتركه صلى الله عليه وسلم ، وهنا يتبين فضل الاعتكاف ، حيث عرف من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل السنن ويتركها أحيانا لكي لا يعتقد بعض الناس إيجاب هذه السنة فيكون هناك حرج على الأمة.
[ما يباح للمعتكف :
يباح للمعتكف الأكل والشرب في المسجد والنوم فيه ، ولزوم بقعة بعينها لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكره لغيره فعل مثل ذلك ، ويباح لبس الثياب الحسنة والطيب ، وله غسل الرأس وتسريحه ودهنه ، وأخذ سنن الفطرة من قص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وتقليم الأظافر ما لم يلوث المسجد ، ويباح له إن يزوره أهله كما كانت فعله أمهات المؤمنين رضي الله عنهم ويجوز للمعتكف أن يرجع أهله إذا خاف عليها .
هذا ما أحببت ذكره من مسائل الاعتكاف على شكل مختصر مع ذكر الدليل وقد استفت من كتاب فقه الاعتكاف للشيخ خالد المشيقح والله اعلي واعلم .
[.